” كوني قمح وسكر”!

ست سنوات بدونك يا فاروق.. ما أصعب الفراق.. ما أصعب الغياب.. ما أصعب القرار من غير أن تكون لك فيه بصمة أو يمتثل لك فيه حضور.
غيابك يا فاروق قد كبَّل يديَّ وأنا أواجه قرار العروس. أول عروس وآخر عروس خارجة من منزلنا. دانية يا فاروق صارت أحلى. صارت أجمل. شتلة ورد في طبيعة لبنان فوَّاحة بالعطر والشذى. وقد أقبل يا فاروق من يطلب يدها ويحاول فكَّ ضفائرها. شاب من قلب الصحراء جاء إلى لبنان يبحث عن ساندريلا فوجدها في بيتك يا فاروق..
وكان عليَّ أن أقول كلمتي وما أشق الأمر على كاهلي فأنا وحدي بدونك ومنِّي ينتظرون الجواب.
لقد جالست ابنتنا دانية يا فاروق بالروح الديمقراطية التي كنت تجالس بها أولادك كأصدقاءٍ لك قبل أن يكونوا أبنائك.
أحببت أن أسمع رأيها فهي في آخر الأمر صاحبة القرار وكان عليَّ أنا أن أوجِّهها وأبارك قرارها وأتصرَّف على أساس أنك معي وأنَّ قرارك حاضر في قرارك وأنَّ ظلك على المقعد أمامنا ولا ينقصه إلاَّ أن تتبلور الصورة.
حاولت أن أتذكَّر ما كنت ترسم من مواصفات العريس الآتي كنت تتطلَّع إلى وجه دانية والغبطة ملء برديك وتقول لها: أي أمير سيستحقك يا دانية ويأخذك منِّي ويكون بديلي في الرعاية والحنان والنصيحة والأمان..
كنت تريد لدانية رجلاً قادراً على حمايتها لا قادراً أن يفتح لها بيتاً وحسب. كنت تريد لها عريساً فارساً يحملها فوق حصانه ويطوي بها الصحاري والفيافي وهي تزهو سعيدة وترن ضحكتها في الأرجاء. تذكرت كل ذلك وأمامي العريس وأهله ينتظرون منِّي أن أقول كلمتي وقد قلتها نعم بعدما جاءت “النعم” الأولى من دانية.
وجاء اليوم ـ الامتحان.
كان المكان كما تعلم فندق “بريستول” الرحيب وقفت أنا مع ابنك البكر طارق نستقبل المدعوين وبيني وبين طارق كانت تتكوَّن مسافة فراغ بالرغم منِّي ومنه. كأنَّ القدر شاء بهذا الفراغ أن يرمز إليك ويحدِّد مكان وقوفك. حتى المدعوين كانوا يسلِّمون عليَّ وعلى طارق وعلى مكان الفراغ. ولولا القليل لمدّوا أيديهم وصافحوك. فإنَّ كل الناس كانت تحس وتشعر بأنَّك موجود معنا، وأنَّ ظلّك لم يغب.
وحين أمسك العريس بيد عروسه، ورقصا، أحسست أنَّك موجود معنا في الحلبة تخيَّلتك وأنت ترقص “التانغو” و”الشارلستون” المفضَّلين لديك.
ثم جاءت اللحظة الأصعب. فرحة دانية تملأ كل الفراغ، عصفورة ربيعية تقفز من دار إلى دار وهي تحمل أمل الصبايا في غدٍ سعيد.
وفرحة دانية أنقذتني من الدوامة. لم أعد أحس بأنَّني كئيبة وتمنيت لها كل السعادة والهناء.
ربِّي اعطني كل الصفاء لأتقبل ما لا أستطيع تغييره.
واعطني يا رب الشجاعة لأغيِّر ما أستطيعه.
نيسانة حلوة، فلذة كبدنا، أخذها الفارس الشرعي ورحل. اختارها لترافقه الدرب والمشوار في الحياة.
أتى هذا الأمير من البعيد القريب ليسكنها حنايا القلب وليغمرها بحنانه الدافق. طارق وكريم، ولدانا ورجلاك على الأرض قادا العروس الفراشة إلى دوحة فارسها العربي.
كانت عيون الأخوة والأخوات ترعى موكب العروسين وترنو بنظرات الأبوَّة والحب.
الأهل والأحباب والأصحاب مجتمعين. كنت أنت ذاكرتهم وذكرياتهم. أنت في خاطرهم، شاركونا عرس الصبية بمآقٍ التمع فيها خليط الدمع والحبور.
من كل بيت في بيروت والشمال، من كل بيت في الشام والكويت تجمعت أحلى الصبايا ليرقصن حتى الصباح.
وأنت. أنت معنا، إلى جانبي، بل داخل عيني. أرى العروسين بعينيك أنت، بلا دموع، وكيف أبكي وأنت معي؟ لهفتي واشتياقي كبيران، وعمق جرحي والذي لا تدري به البشر. أيها الحبيب الحبيب.
وتستمر الحياة معي. وهي طويلة. مليئة وغنية من فرح السنين الغابرة، والقلب، هذا القلب رجاؤه لا ينقطع، يلح ويرجو لو همست للعروس وباركت لها عريسها ودارها واحتضنتها وقلت لها معي: “كوني قمح وسكر، كوني ورد وعنبر”.
—
نشرت في مجلة “الأفكار” عام 1993